فصل: تفسير الآيات (19- 20):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (19- 20):

{أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (19) يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)}.
التفسير:
الصيّب هو المطر. وقد شبّه به هدى السماء، الذي تلقاه الرسول من ربّه، ليحيى به موات القلوب، كما يحيى المطر جديب الأرض.
وفى القرآن وعد ووعيد، وتكاليف وأعباء، كالعبادات، والجهاد في سبيل اللّه، ومجاهدة النفس في اجتناب المحرمات.. ثم هو مع هذا رحمة وشفاء! وفى الغيث الذي ينزل من السماء ظلمات من السحب المتراكمة، ورعد وبرق.. ثم هو مع هذا نعمة وحياة! كذلك كانت آيات القرآن حين تتنزل، تنخلع لها قلوب المنافقين، وتنفطر منها أفئدتهم، لما يتوقعون فيها من صواعق تدمدم عليهم، وتفضح مكنون صدورهم، بما يبيتون ما لا يرضى من القول، وما لا يحمد من العمل.. فإذا تلقى الرسول وحيا من ربّه، وأعلنه في أصحابه، اصطكت به أسماع المنافقين، ووجفت قلوبهم هلعا وفزعا! هذا هو حظهم من كتاب اللّه، وذلك مبلغ ما ينالهم من هذا الخير العظيم.. اضطراب، وذعر، وهمّ مقيم.. حذر الخزي والفضيحة! وذلك شأنهم تماما مع الغيث.. الناس، والحيوان، والنبات، وحتى الجماد.. يحيون بهذا الغيث، ويترقبون في شوق ولهف مواقيت نزوله، دون أن يتأدّى إليهم خوف أو قلق، مما يصحبه من ظلام ورعود! لأنهم يعلمون ما وراء هذه الرعود والبروق من رى وحياة!! أما المنافقون، فشأنهم مع هذا الغيث كشأنهم مع كل خير.. يلتوون به، ويستقبلونه بنفوسهم المريضة، فلا يصيبهم منه إلا الشرّ، الذي يكمن في كل خير تستقبله النفوس المريضة، وفى كل نعمة تقع في يد السفهاء من الناس!.
الرعود والصواعق، هي التي يستقبلها أولئك المنافقون من كل ما تحمل هذه الظاهرة الطبيعية، من خير ورحمة!.
وفى قوله تعالى: {وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ} إشارة إلى دورة من دورات المنافقين، حيث انتهى بهم ترددهم بين الإيمان والكفر، إلى الكفر الغليظ.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا} [137: النساء]. فالمنافقون هم كفار، وأكثر من كفار.. كفار ومنافقون معا!.
وفريق آخر من المنافقين ما يزال أمرهم مرددا بين النفاق والكفر-
هؤلاء وإن ذهب اللّه بالنور الذي دخل عليهم من القرآن، حين خادعوا اللّه ورسوله- فإنهم لا يزالون على صلة بالإسلام والمسلمين، لم يتحولوا إلى الكفر تحولا صريحا، ولهذا فإن لمعات من ضوء الإسلام تطلع عليهم بين الحين والحين فتمسك بهم على طريق الإسلام وفى جماعة المسلمين، ثم تهجم عليهم ضلالاتهم، فتعمّى عليهم السبل، وتتقطع بينهم وبين الإسلام المسالك، فإذاهم في حيرة واضطراب.. وهكذا تترد أحوالهم بين الإيمان والكفر، إلى أن يموتوا على هذا النفاق.. {يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا}.

.تفسير الآيات (21- 22):

{يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)}.
التفسير:
دعوة عامة شاملة إلى الناس، من ربّ الناس، بعد أن عرضهم هذا العرض الكاشف، من مؤمنين، وكافرين، منافقين.. فالطريق إلى اللّه مفتوح للناس جميعا، يسع برّهم وفاجرهم، مؤمنهم وكافرهم، وبين يدي كل إنسان شواهد قائمة، وأعلام منصوبة على الطريق، تدعوه إلى اللّه، وإلى الإقرار بوحدانيته، إذا هو نظر في هذا الوجود، نظرة بعيدة عن الهوى، خالصة من الضلال والزيغ.

.تفسير الآية رقم (23):

{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (23)}.
التفسير:
وهذا الكتاب الذي نزل على محمد، هو آية من آيات اللّه، وعلم من أعلامه الدالة عليه، وعلى قدرته ووحدانيته.. فمن قصرت بصيرته عن تناول الآيات الكونية، وعن فهم ما تحدّث به عن اللّه، وعن قدرته ووحدانيته، فهذا هو كتاب اللّه، ترجمان هذه الآيات، بلسان عربى مبين، يفهم عنه كل عربى ما يقول.. فليستمع إليه، وليأخذ بما يقول، وليؤمن به.. لأنه لا يقول إلا صدقا، ولا ينطق إلا حقّا وعدلا، إذ هو كلام ربّ العالمين.. لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
وليس الكشف عن صدق هذا الكتاب، وعن علوّ متنزله، بالأمر الذي يعجز عنه العربي، إذ هو ناطق بلسانه متحدث باللغة التي يعرف دقائق أسرارها، وروائع أساليبها.. وما عليه إلا أن يستمع إلى آيات من هذا الكتاب، ثم إلى ما يتخير من فنون الكلام عند قومه: من شعر، وخطابة، وأمثال، وسجع كهان.. ثم يزن كلا القولين، بأى ميزان من موازين القول عنده.. وفى غير عناء سيبدو له أنه يقابل الدر بالحصى، ويفاضل بين الجواهر والأصداف، وأن كلام اللّه هو كلام اللّه، وأن كلام الناس هو كلام الناس! فإن شكّ شاك في هذا فليضع الأمر موضع الامتحان العملي.. فهذه كلمات اللّه، في جلالها، وسموها، تقف في الميدان، متحدية أرباب الفصاحة والبيان، بكل صور التحدي: أن يأتوا بسورة من مثل هذا القرآن، وأن يجمعوا إليهم كل ما استطاعوا جمعه من قوى مادية ومعنوية، بشرية أو غير بشرية.. وهيهات أن يبلغوا من ذلك إلا العجز، والاستخزاء.

.تفسير الآية رقم (24):

{فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (24)}.
التفسير:
فإذا كشفت هذه التجربة عن العجز الفاضح، وظهر منها أن هذا الكلام هو كلام اللّه، وأن هذا الرسول هو رسول اللّه، لم يكن بد من تصديقه، وتصديق ما جاء به، من الإيمان باللّه، وملائكته، وكتبه ورسله، واليوم الآخر، والامتثال لما يأمر به، وينهى عنه، وإلا فهو العناد الآثم، والكبر الوقاح، المفضى بصاحبه إلى هذا المصير المشئوم: {النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ}.

.تفسير الآية رقم (25):

{وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (25)}.
التفسير:
وهذه الصورة الكريمة التي تعرضها الآية للمؤمنين، وما يلقون من كرامة ونعيم، في مواجهه الصورة الكئيبة التي تعرض فيها الآيات السابقة جهنم وما يلقى الكافرون من أهوالها- هي دعوة أخرى إلى الإيمان باللّه، وإغراء بهذا النعيم، وتحذير من جهنم، وما يلقى أهلها من عذاب ونكال.
وفى قوله تعالى: {كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً} تبيان لطيب ثمر الجنة، وأنه على درجة واحدة من طيب الطعم وحسن المنظر، وأنه في اختلاف أصنافه وألوانه، هو واحد فيما يجد الطاعم له من لذة ومتعة ونعيم! وهذا شأن آيات اللّه في كمالها، وجلالها، وتشابهها في الكمال والجلال وبهذا وصف اللّه- سبحانه- القرآن الكريم بقوله: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً}.
ولعل سائلا يسأل: ألا تملّ النفس هذا المستوي الواحد من الطعوم التي تكاد تكون لونا واحدا من ألوان الطعام؟ أفلا كان من تمام النعيم أن تتجدد طعومه، وتختلف مذاقاته، فيكون نعيما فوق نعيم، تتضاعف به اللذة، وتتجدد فيه الرغبة؟
ونقول: إن نعيم الجنة لا يقاس بنعيم الدنيا، وأحوال أهل الجنة لا تقابل بأحوال أهل الدنيا، فهم إنما ينعمون نعيما كاملا لا نقص فيه، ولا يقبل مزيدا عليه.. نعيما متصلا لا ينقطع أبدا.. فكل ما ينالون من ثمار الجنة يحقق لهم هذا النعيم الذي ليس فوقه نعيم، دون سأم أو ملل، لأن النفس إنما تسأم الشيء الذي يلحّ عليها، بعد أن تتشبع به، وتستوفى حظها منه، فتزهد فيه، لأنه إن أرضاها في حال، فلن يرضيها في جميع الأحوال.. وليس كذلك نعيم الجنة، الذي يرضى أهله إرضاء كاملا متصلا.
هذا، مع أن نجعل في تقديرنا، تلك الفروق الشاسعة بين أحوال الآخرة وأحوال الدنيا، وبين إنسان الجنة الخالد، وإنسان الدنيا الزائل.
هذا، وللآية الكريمة وجه آخر يمكن أن تفهم عليه، وهو أن ما يتلقاه أهل الجنة من ثمارها ليس هو كل طعام أهل الجنة، فهنالك ألوان من النعيم لا عدد لها ولا حصر، والثمار لون واحد من ألوان النعيم، وهى وإن جاءت إليهم متشابهة في صورها، حتى ليحسب اللاحق منها أنه من صنف السابق- فإنها عند الطعم والمذاق تكشف عن أنها من جنس غير جنس ما سبقها، وفى هذا ما فيه من لذة المفاجأة، وإثارة الواقع غير المتوقع!

.تفسير الآيات (26- 27):

{إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (27)}.
التفسير:
الكائنات كلها- صغيرها وكبيرها- صنعة اللّه، خلقها بحكمته، وأبدعها بقدرته.. فهى في معرض ملكه سواء في الإعلان عن تلك الحكمة وهذه القدرة، ففى كل ذرة من ذرات هذا الكون العظيم آية تحدّث عن جلال اللّه وعظمته! فللّه- سبحانه- أن يضرب المثل بأيّ من مخلوقاته، وأن يقيم منه شاهدا لما يريد.. فأما الذين آمنوا، فيجدون في هذا المثل هدى إلى هدى، ونورا إلى نور، وأما الذين كفروا فلا تزيدهم الأمثال الكاشفة إلا ضلالا إلى ضلال، وإلا عمى إلى عمى.
وفى قوله تعالى: {وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ} نظرتان:
النظرة الأولى: إلى العدول عن الكافرين، والتعبير عنهم بالفاسقين، إذ سياق الكلام يقضى بأن يكون الإضلال للكافرين الذين وقفوا من المثل هذا الموقف اللئيم، فقالوا في استهزاء واستنكار: {ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا} فكان المتوقع أن يكون الجواب هكذا: {يضلّ به كثيرا ويهدى به كثيرا وما يضلّ به إلّا الكافرين}.
ولكن لكلام اللّه حساب غير هذا الحساب، وتقدير فوق هذا التقدير، فجاءت فاصلة الآية هكذا: {وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ}.
والفسق معناه في اللغة: الخروج، يقال: فسق، وفسق أي خرج عن طريق الهدى والصلاح، وانفسق الرّطب عن قشره: أي خرج.
والكافر فاسق، لأنه خرج عن طريق الهدى والإيمان، وركب طريق الضّلال والكفر، خرج عن فطرته التي فطره اللّه عليها، ونقض الميثاق الذي واثقه اللّه عليه، في قوله سبحانه: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا} [172 الأعراف] والنظر الثانية: إلى قوله تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً...} الآية فهى جواب عن سؤال أولئك الذين في قلوبهم مرض، الذين استخفّوا بالأمثال التي يضربها اللّه، ويتخذ مادتها من مخلوقات ضئيلة من خلقه.. فيقولون في عجب واستنكار: ماذا أراد اللّه بهذا مثلا؟ فكان جواب الحق جلّ وعلا: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ}! والنظرة هنا إلى نسبة الإضلال إلى اللّه سبحانه وتعالى، بضرب مثل هذا المثل.. فكيف يفتح اللّه لعباده بابا إلى الضلال، ويسوقهم إليه.
ثم يحاسبهم عن هذا الضلال، ويأخذهم بالعذاب الأليم؟.
والجواب على هذا، قد كثر حوله الخلاف، وتعددت فيه المذاهب.
هل الإنسان حرّ مختار فيما يأتى من خير وشر، فيكون حسابه جزاءا وفاقا لما عمل بحريته واختياره، أم هو مجبر مضطر، مسوق إلى قدره المقدور، فيكون عمله غير محسوب عليه، ويكون حسابه على ما عمل، ظلم له، وعدوان عليه؟ أم أن الإنسان مزيج من الجبر والاختيار، له إرادة، وله قدرة على فعل ما يريد، ولكنّ إرادته وقدرته مرتبطتان بإرادة فوق إرادته وبقدرة فوق قدرته؟ فهو يريد، ولكن وفق ما تريد تلك الإرادة العليا، ويفعل، ولكن داخل فعل تلك القدرة المهيمنة على قدرته.. فالإنسان في هذا التصور أشبه بترس في آلة مكانيكية يتحرك بحركة تلك الآلة، ويسكن بسكونها.
فهو متحرك، وغير متحرك معا!.
والرأى- عندنا- أن الإنسان صنعة اللّه، وللّه سبحانه أن يضعه حيث يشاء، ليأخذ مكانه واتجاهه في هذا الوجود. ومع هذا فإن الإنسان- بما أودع اللّه فيه من عقل- مطالب بأن يستعمل هذا العقل وما فيه من قوى، في وزن الأمور وتقديرها.. فيتقدم أو يتأخر، ويقدم أو يحجم ويؤمن أو يكفر، ويهتدى أو يضل.. وهو في كل هذا سائر في الطريق المرسوم له، والذي هو مستور في الغيب عنه، إلى أن يستوى عليه، وذلك هو قدره المقدور، يرى وكأنه من صنعة يده، وهو في الحقيقة صنعة يد فوق يده.. يد القدرة القادرة الباهرة: {بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً} [31: الرعد] {كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ} [31: المدثر].. {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [2: التغابن].

.تفسير الآية رقم (28):

{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)}.
التفسير:
وهذه مواجهة فاضحة مخزية، لأولئك الذين لجّ بهم العناد والضلال، فاستحبّوا العمى على الهدى، وجعلوا للّه أندادا، يعبدونهم من دونه.. وهذا أمر لا يقيم عليه إلا سفيه، ولا يرضى به إلا سقيم القلب، أعمى البصر والبصيرة.
فاللّه وحده هو الذي خلق الإنسان من الموات، ثم سوّاه بشرا سويا، ثم يردّه إلى الموات، ثم يعيده مرة أخرى إلى الحياة.. للحساب والجزاء.
فكيف يكون لإنسان أن يتنكر لخالقه، ويعدل وجهه عنه إلى عبادة المخلوقين.. من جماد وغير جماد؟ ذلك ضلال بعيد، وخسران مبين!

.تفسير الآية رقم (29):

{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)}.
التفسير:
ومن ألطاف الخالق العظيم ورحمته بالناس، أن أقام الإنسان على هذه الأرض، ومكّن له من أسباب الحياة فيها، والسيادة، عليها فجعل يده مبسوطة على كل شيء شيء فيها، بما وهبه اللّه من قوة عاقلة، انفرد بها من بين ما على الأرض من مخلوقات.. وذلك من شأنه ألّا يجعل سبيلا لعاقل أن يعطى ولاءه لغير اللّه رب العالمين.
وقد يفهم من قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ} بعد قوله سبحانه: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} قد يفهم من هذا أن خلق السموات، جاء تاليا لخلق الأرض.
ولكن، مع قليل من النظر، يتضح أن ذلك كان بعد خلق السموات والأرض.. فالأرض كانت مخلوقة، ثم خلق اللّه بعد ذلك، ما فيها من مخلوقات.. وكذلك السماء، كانت قائمة، فجعلها اللّه سبحانه سبع سموات. وهذا ما تشير إليه الآية الكريمة، في قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ} [11: فصلت].
وهذا لا يصادم ما يقول به العلم الحديث، من أن الأرض وليدة انفجار في الشمس، تسبب عنه انفصال أجرام منها، وكانت الأرض واحدة من تلك الأجرام! فعوالم السماء مخلوقة قبل الأرض، والأرض مولود من مواليدها! وأمر آخر نحب أن نشير إليه هنا، وهو أن ما جاء في القرآن الكريم عن خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام، لا مدخل له في تكييف قدرة اللّه سبحانه وتعالى، وأن ذلك الخلق قد احتاج إلى عمل هذه القدرة ستة أيام، فذلك تحديد لقدرة اللّه، التي لا يحدّها شيء، ولا يعلق بها قيد من قيود الزمان والمكان {إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [82: يس].
وأما الأيام الستة التي ذكرها القرآن الكريم في أكثر من موضع زمنا لخلق السموات والأرض، فهى الوعاء الزمنى الذي استكملت فيه السموات والأرض تمام خلقهما، شأنهما في ذلك شأن كل مخلوق.. من حيوان أو نبات أو جماد.. الإنسان {حَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} وبعض الحيوانات يتخلق في ساعة أو ما دون الساعة، وبعضها يتخلق في عام أو أكثر من عام، والحبة تكون نبتة في كذا، وشجرة في كذا من الزمن، وهكذا.
فقوله تعالى: {خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} يشير إلى أن الوعاء الزمنى الذي تم فيه خلق السموات والأرض هو ستة أيام، فقد تخلّفا في هذه الأيام الستة كما تتخلق الكائنات، وتستكمل وجودها، في زمن مقدور لها، تعيش فيه، متنقلة من طور إلى طور، ومن حال إلى حال، حتى تأخذ الوضع الذي تبلغ به تمامها.